عن الحُسين



 لماذا يتوجب علينا أن نبكيَ الحسين في عاشوراء!؟


إنّ للبطولة صُوَرًا عديدة، أدناها أن يلزمَ المرءُ حدودَ نفسه فلا يتعدّاها إلى ما لا يحلّ له. فيكون بهذا قد عاش كفافًا لا عليه ولا له. وأمّا أعلى مراتب البطولة وأشرفها فهو بذل النفس في سبيل القيم العليا؛ حين يموت البطل كي تحيا البطولة، حين يتردّى الإنسان كي ترتقي الإنسانية. فالجودُ بالمالِ جودٌ فيه مكرمةٌ *** والجودُ بالنفس أسمى غاية الجودِ. والأبطال على مراتب ودرجات، فمنهم من يجمعُ البطولة مع الشجاعة. ومنهم من يجمع معهما أخلاق الفروسية والشرف. ومنهم من يضيف إلى ذلك كلِّه معانيَ من الثورة والمظلومية والانتصار للحق الذي لا يُعمل به وإبطال الباطل الذي لا يُتناهى عنه. ومنهم من يكون بطلًا كاملًا قد جمعَ معاني البطولة كلّها، فيكون بهذا هو المقياس للبطولة كالحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام.


إنّ ثورة الحُسين (ع) لم تكتسب رمزيتها بسبب أنها أولُ الثورات، فقد كانت هناك ثورات كثيرة قبلها وأكثر بعدها. ولم يكن الحُسين هو أولَ الشهداء، فأبوه من قبله شهيد وعمه جعفر وعم أبيه حمزة، بل هو نجم لامع في عنقود سلسلة نجمية من الشهداء! حتى أنّ أبا الفرج الأصفهاني - وهو أُمويّ النسب! – قد عدّ شهداء آل أبي طالب من جعفر وعليّ وأبنائهما في كتابه "مقاتل الطالبيين" فكانوا ما يقرب من 500 نفر من شهداء آل أبي طالب! وذلك في أول 300 عام هجري فقط! فمن أين إذًا هذه الرمزية الكُبرى التي تكتنف ثورة الحسين؟... إنّ في ثورة الحسين معانيَ عظيمة لا تتوفر جمعاء في موطن واحد إلا في هذا الموطن، مما جعلها طاووس المآسي وقبّة المآتم ومُعلّقة المراثي. منها (1) المظلومية. فلقد قُتل الحسين مع عشرين من آل بيته ونسائه وأطفاله على أيدي حفنة من أعداء الحق وجبابرة الباطل، ثم سيقَ من بقي منهم على قيد الحياة أسرى من العراق إلى الشام بعد أن نُكِّل بجثمانه الطاهر. وماذا كانت دعوة الحسين في الخروج؟ إنه لم يخرج "أشراً ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا وإنما خرج لطلب الإصلاح في أمة جده رسول الله (ص) يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر". وهل كان الأنبياء إلا مريدي إصلاحٍ في أممهم!؟. ومنها (2) الخُذلان. لقد خرج الحُسين في سبعين رجلًا من شيعته وأصحابه لكي يجددوا شعائر الإسلام التي طُمست ولم يكن قد مضى على موت الرسول الأكرم (ص) أكثر من خمسين عامًا فقط! سبعون رجلًا قوبلوا بسبعين ألفًا من جنود الباطل والضلال. لقد كانت ألوفٌ مؤلفة من المسلمين في شتى بقاع المعمورة ولم يخرج لنصرة الحق سوى سبعين رجلًا فقط! ولما سأل الحسين الشاعرَ الكبير الفرزدق عن أحوال الناس خلفه، هل ينصرونه! فأجابه الشاعر بالجواب الشهير:"قلوب الناس معك وسيوفهم عليك". وأيّ خذلان أكبر من هذا!. ومنها (3) أخلاق الفروسية. ففي ليلة الطف من عاشوراء جمعَ الحسينُ أصحابه ممن معه ثم أعطاهم الخيار بين أن يبقوا معه أو يتركوه، فإنّ في أحلك المواقف وأضيقها تبرز سمات المجد والشرف. ثم لما أصبح صباحُ عاشوراء - ويا ليته لم يصبح أبداً – لم يشأ الحسين أن يبتديء القومَ بالقتال. ثم لما أحاط به جنود الباطل ورحّب بموته تحية النهاية سالت دمعةٌ حارّة من عينه فسألته أخته زينب الكبرى فقال لها، وكأنّه لا ينتمي لهذا العالَم الفاسد :"أبكي على هؤلاء، يدخلون النار بسببي". إنّ لدى الحسين من وفرة الحنان ما يجعله يبكي على أعدائه! ولديه من وفرة الشجاعة ما يجعله يخير أصحابه السبعين في الثبات أو الرحيل بإزاء سبعين ألفاً من جنود الباطل. إنّ العظمة والبطولة لَتتّسعُ لِوَفرتَين في آن واحد ولَتجمعُ بين الشتيتين في مكان واحد. 


وبعدُ، فلعلّ سائلاً يسأل: مالنا وللزمان الغابر!؟ وأيّ جدوى أو ثمرة تُرجى من بعث الماضي ومشاكله وأحزانه، ألا يكفينا ما هو حاصل اليوم من المآسي والكوارث كي نستحضر آلام الماضي ومصائبه علينا!؟ إنّ الحسين فِكرة، والفكرة قد تُطمس لكنها لا تموت، فكلما ضعفت تضاعفت. إنها فكرة تتمثل فيها كل القيم العليا والأخلاق السامية. إنها الحرية والثورة والموت في سبيل الحق. ألا و إنّ لكل زمانٍ حسيناً، وحسينُ زماننا هي قضية فلسطين. فيها من عدالة القضية وخذلان الصديق ومظلومية أصحاب الحق ما في مأساة الحسين. أفلا يحق لنا أن نبكي فلسطين يوم عاشوراء!؟ إنّ الأخلاق لا تتجزأ، فمن وقف مع الحسين في كربلاء سوف يقف مع فلسطين في الكرب والبلاء، ومن صمت عن مأساته، فهُم اليوم عن الحق أصْمَتْ. هذه بتلك ولا سبيل إلى الهروب من الحقيقة. 


فالسلامُ عليك يا أبا عبد الله. السلامُ عليك يا ريحانةَ رسول الله، يا سيد شباب أهل الجنة. السلامُ عليك يا بن سيدة نساء العالمين. السلامُ عليك يا بن هارون الأمّة وباب علم مدينتها ويعسوب الدين. السلام عليك يا بقية رسول الله. السلام عليك يا أيها السبطُ المنتجب والمظلوم المُهتَضَم والشهيد الخالد. السلامُ عليك يوم وُلدتَ ويومَ مُتّ ويوم تُبعثُ حياً. السلامُ عليك في الأولين والآخرين ويوم يقوم الناسُ لرب العالمين.


تعليقات

المشاركات الشائعة