عن ذاكرة المكان والمجزرة.
ربما كانت المرة الأولى لي -ولمن هم في عمري تقريبا- لندرك معنى المجزرة بشكلها الواقعي لا بشكلها المجازي الذي تعلّمك إياه دروس التاريخ هي الضربة الأولى في حرب غزة الأولى قبل عشر سنوات تقريبا، كنا مراهقين سذّجًا خرجنا للتو من امتحان اللغة العربية وبدأنا بالنقاش حوله وحول أي الإجابات صحيح وأيها خاطئ وكيف سنعبر مادة الأحياء في الفترة القادمة وكيف سنعبر أشياء من حياة غريبة ومختزلة. كانت المدرسة في حي الشيخ رضوان، في مكان مرتفع من المدينة نسبيا يمكنك من خلاله أن ترى أجزاء واسعة من شرق غزة، حدث القصفُ تباعا وتغيّرت المدينة فجأة، كل من فيها كان يركض وكل من فيها يصله اتصال ما عن شخص ما، والأصواتُ هزّت الفراغ الذي كان حولنا أو فينا، كنا في الشارع سمعنا وشاهدنا الغارات بشكل مباشر وشاهدنا أعمدة الدخان تخرج من كل مكان في المدينة والبارود يسيل على الهواء والوجوه، مع كل هذا كنا أيضًا سذجّا ولم ندرك حجم ما حدثَ حتى جاءتنا المشاهد والأرقام المهولة، مئات الشهداء والجرحى مكفيّون على وجوههم والدم مسكوب كماء المخيّم الذابل، والفاجعة كانت فاجعة الصدمة، وهول المفاجأة، كل أعمدة الدخان كان تحتها أناسٌ يحترقون، وكل أصوات القنابل كانت على أجسادٍ ولحمٍ ودمٍ وذاكرة.
كل شيءٍ عادَ بالفلسطيني يومها إلى ذاكرته التي تعلّمها عن المجازر والحياة، وكل شيءٍ عندها توقف ليفهم المراهق الساذج معنى أن يموت الناس رُزمًا رزمًا ولا شيء يمنع الموتُ وقتها سوى المصادفة.
أقول هذ اليوم لأنني أدركُ أن الذاكرة تعمل بشكل مذهل، أقول هذا ليس كشخصٍ يجرب آفات الذاكرة فحسب بل كشخص يدّعي أنه يدرسُها أيضًا كظاهرة عصبية ومعرفية. لا أودّ أن أدخلَ في التفاصيل، لكن هنالك خاصية واحدة أودّ أن أستدعيها بشأن الذاكرة اليوم وهي ما نسميه "إكمال النمط" و"التعرف على النمط" وهي أمور مدروسة بشكل جيّد في ذاكرة المكان - تصيبني قبضة ما عندما أقول ذاكرة المكان-. في كلّ مرةٍ تعمل فيها ذاكرتك من أجل تذكر طريقٍ ما أو لتمشي في طريقٍ وتعرف أين أنت وإلى أين تتجه تقوم قدرتك العصبية باستدعاء التجارب السابقة من أجل التعرف على أنماطٍ تساعدها وتسهل عملية التذكر ومن ثمّ التعرف على المكان (بالمعنى المعرفي)، أو أحيانا تقوم بإكمال هذه الأنماط من التجارب السابقة، الخلل في هذه الوظيفة يعد إحدى أولى علامات الخرف (بالتحديد ألزهايمر)، ولهذا تجدهم المرضى كثيري التيه في الشوارع والأماكن.
إنني أدعي اليوم أن هذه الظاهرة تسحبنا كأشخاص جربوا غزة إلى كل شيءٍ من تاريخ غزة الخاص، تعيدكَ الذاكرة دائما إلى مشاهد الحزن الأولى، الأشياء التي عشتها أو تعلمتها عن البؤس، تقودك دائما هذه الذاكرة لتكمل أي حزنٍ أو مشهدٍ ناقصٍ من المجزرة، لأن بؤسك يريد أن تجربه كاملا كل مرة، تريدكَ هذه الذاكرة أن تكدّس المجازر فيها كأنماط ليسهل عليك غدا أن تعودَ للهولِ والحزن المركب في تاريخك كفلسطيني مجرّب، تريدكَ أن تأخذ كل شيءٍ بتفاصيله وتراكمه نمطًا بعد نمط، مجزرة بعد مجزرة، وذاكرة بعد ذاكرة، من أجل أن تستدعي المكان والأرض جيّدًا، ومن أجل ألّا يصيبك هذا الخرف المقيت...وتنسى مثلما ينسى البقية أين الطريق.

تعليقات
إرسال تعليق